الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويظهر أنه كان مغلّظًا عندهم لقلة وروده في كلامهم ولا يَكاد يقع إلا في مقام مهم.وهو عند علماء المسلمين يمين كسائر الأيمان فيها كفارة عند الحِنث.وقال بعض علماء الحنفية: إن لهم قولًا بأن الحالف به كاذبًا تلزمه الردّة لأنه نسب إلى علم الله ما هو مخالف للواقع، فآل إلى جعل علم الله جهلًا.وهذا يرمي إلى التغليظ والتحذير وإلا فكيف يكفر أحد بلوازم بعيدة.واضطرهم إلى شدّة التوكيد بالقسم ما رأوا من تصميم كثير من أهل القرية على تكذيبهم.ويسمى هذا المقدار من التأكيد ضربًا إنكاريًّا.وأما قولهم: {وما علينا إلا البالغ المبين} فذلك وعظ وعظوا به القوم ليعلموا أنهم لا منفعة تنجرّ لهم من إيمان القوم وإعلان لهم بالتبرُّؤ من عهدة بقاء القوم على الشرك وذلك من شأنه أن يثير النظر الفكري في نفوس القوم.و{البلاغ} اسم مصدر من أبلغ إذا أوصل خبرًا، قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] وقال: {هذا بلاغ للناس} [إبراهيم: 52].ولا يستعمل البلاغ في إيصال الذوات.والفقهاء يقولون في كراء السفن والرواحل: إن منه ما هو على البلاغ.يريدون على الوصول إلى مكان معيَّن بين المكري والمكتري.و{المبين} وصف للبلاغ، أي البلاغ الواضح دلالة وهو الذي لا إيهام فيه ولا مواربة.{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)}.لما غلبتهم الحجة من كل جانب وبلغ قول الرسل {وما علينا إلا البلاغ المبين} [يس: 17] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعًا للرسل بترك دعوتهم ظنًّا منهم أن يدَّعونه شيء خفي لا قِبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه، وذلك بأن زعموا أنهم تطيّروا بهم ولحقهم منهم شُؤْم، ولابد للمغلوب من بارد العذر.والتطير في الأصل: تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يَتوهم منه أحد أنه كان سببًا في لحاق شر به فصار مرادفًا للتشاؤم.وفي الحديث: «لا عَدوى ولا طِيَرَة وإنما الطِيرَة على من تَطير» وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية، أي قالوا: إنا تشاءمنا بكم.ومعنى {بكم} بدعوتكم، وليسوا يريدون أن القرية حلّ بها حادث سوء يعمّ الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضرّ العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم، وقد جوزه بعض المفسرين، وإنما معْنى ذلك: أن أحدًا لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه.ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارناتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أمورًا لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه، وأن يعينوا من المقارنات للتيمن ما يرغبون فيه وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة، فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله تعالى عن قوم فرعون: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يَطَّيَّروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] وحكَى عن مشركي مكة {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} [النساء: 78].ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافًا بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جراء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا: {إنا تطيرنا بكم} أي يقولها الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا: {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} وبذلك ألجأوا بولس وبرنابا إلى الخروج من أنطاكية فخرجا إلى أيقونية وظهرت كرامة بولس في أيقونية ثم في لسترة ثم في دربة.ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقّون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم ويَلحقونهم إلى كل بلد يحلّون به ليشغبوا عليهم، فمسّهم من ذلك عذاب وضرّ ورُجم بولس في مدينة لسترة حتى حسبوا أن قد مات.ولام {لئن لم تنتهوا} موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم.{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}.حكي قول الرسل بما يرادفه ويؤدي معناه بأسلوب عربي تعريضًا بأهل الشرك من قريش الذين ضربت القرية مثلًا لهم، فالرسل لم يذكروا مادة الطيرة والطير وإنما أتوا بما يدل على أن شؤم القوم متصل بذواتهم لا جاءٍ من المرسلين إليهم فحكي بما يوافقه في كلام العرب تعريضًا بمشركي مكة وهذا بمنزلة التجريد لضرب المثل لهم بأن لوحظ في حكاية القصة ما هو من شئون المشبَّهين بأصحاب القصة.ولما كانت الطيرة بمعنى الشؤم مشتقة من اسم الطير لوحظ فيها مادة الاشتقاق.وقد جاء إطلاق الطائر على معنى الشؤم في قوله تعالى في سورة الأعراف (131): {ألا إنما طائرهم عند اللَّه} على طريقة المشاكلة.ومعنى {طائركم معكم} الطائر الذي تنسبون إليه الشؤم هو معكم، أي في نفوسكم، أرادوا أنكم لو تدبرتم لوجدتم أن سبب ما سميتموه شؤمًا هو كفركم وسوء سمعكم للمواعظ، فإن الذين استمعوا أحسن القول اتبعوه ولم يعْتَدُوا عليكم، وأنتم الذين آثرتم الفتنة وأسعرتم البغضاء والإِحن فلا جرم أنتم سبب سوء الحالة التي حدثت في المدينة.وأشار آخرُ كلامهم إلى هذا إذ قالوا: {أإن ذكرتم} بطريقة الاستفهام الإِنكاري الداخل على {إِنْ} الشرطية، فهو استفهام على محذوف دلّ عليه الكلام السابق، وقُيّد ذلك المحذوف بالشرط الذي حذف جوابه أيضًا استغناء عنه بالاستفهام عنه، وهما بمعنى واحد، إلا أن سيبويه يرجّح إذا اجتمع الاستفهام والشرط أن يؤتى بما يناسب الاستفهام لو صرح به، فكذلك لمَّا حُذف يكون المقدَّر مناسبًا للاستفهام.والتقدير: أتتشاءمون بالتذكير إنْ ذُكرتم، لما يدل عليه قول أهل القرية {إنا تطيرنا بكم} [يس: 18]، أي بكلامكم وأبطلوا أن يكون الشؤم من تذكيرهم بقولهم: {بل أنتم قوم مسرفون} أي لا طيرة فيما زعمتم ولكنكم قوم كافرون غشيت عقولكم الأوهام فظننتم ما فيه نفعكم ضرًّا لكم، ونُطتم الأشياء بغير أسبابها من إغراقكم في الجهالة والكفر وفساد الاعتقاد.ومن إسرافكم اعتقادكم بالشؤم والبخت.وقرأ الجمهور {أإن ذكرتم} بهمزة استفهام داخلة على {إنْ} المكسورة الهمزة الشرطية وتشديد الكاف.وقرأه أبو جعفر {أأن ذكرتم} بفتح كلتا الهمزتين وبتخفيف الكاف من {ذكرتم}.والاستفهام تقرير، أي ألأجْللِ إن ذكرنا أسماءَكم حين دعوناكم حلّ الشؤم بينكم كناية عن كونهم أهلًا لأن تكون أسماؤهم شؤمًا.وفي ذكر كلمة {قوم} إيذان بأن الإِسراف متمكن منهم وبه قِوام قوميتهم كما تقدم في قوله: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164). اهـ.
|